“أغنية عصافير الدوري”.. شاعرية السينما الإيرنية المرهفة
عادته يمضي المخرج الإيراني العالمي مجيد مجيدي في فيلمه الأخير(أغنية عصافير الدوري/ The Song of Sparrows) بعيداً عن فضاء المدن المغلقة، وينقل المشاهد إلى فضاءات أكثر اتساعاً ورحابة، حيث يصور فيلمه في الريف الإيراني الساحر، ويختار تلك البيئة الفقيرة
التي تضم بيوت الفلاحين البسطاء المشبعة بروح إنسانية شفافة .. تبدأ القصة بالحدث الأهم: ضياع سماعة الطفلة الصماء “هنية” ابنة “كريم” في خزان الماء وهي تساعد أخيها “حسين” ورفاقه الأطفال الصغار في تنظيف الخزان لجعله حوضاً يليق بتربية الأسماك والمتاجرة بها .. بذات اللغة السينمائية الرشيقة يدخل الفيلم الى عالم من الحياة الفاتنة عبر مكونات طبيعة المكان الآخاذ والأصوات المتسربة من الطبيعة بكل ما تحمله من حفيف الأعشاب وأصوات الحيوانات وهمس الرياح ، وأيضاً من رشقات موسيقية مختار بث توقيتها بكثير من العناية الفنية.الفيلم يتخذ اسمه من عصافير الدوري التي تعشش في جدران خزان الماء الذي عمد الأطفال على تنظيفه، يظهر عصفور جريح يهتم كريم برعايته داخل بيته بينما يحاول الخروج من النوافذ المغلقة للبيت.
يحكي الفيلم قصة عامل إسمه كريم (الممثل رضا ناجي) يعمل في مزرعة لتربية طيور النعام في إحدى ضواحي العاصمة طهران، ويعيش مع زوجته وأبنائه الثلاثة في بيت بسيط وسط السهول الخضراء الممتدة .. حيث تبدع كاميرا مجيدي في إلتقاط جماليات هذه البراري لتجعل منها النقيض لصخب وازدحام المدينة التي سيذهب إليها فيما بعد ،على دراجته لإصلاح سماعة إذن ابنته “هنية”، بعد أن طُرد من عمله على إثر هروب إحدى النعامات.
يسير الفيلم في عدة مسارات متوازية : ضياع السماعة وتلفها. هروب النعامة وفصل كريم من العمل . إنتقال كريم الى طهران وإشتغاله سائق تاكسي دراجة . ثم تنظيف وتجميع أسماك الزينة لتربيتها، وهنا يتجلى مشهد سقوط “حسين” ورفاقه على الأرض حاملين برميلا كبيراً وفي داخله أسماك ذهبية حصلوا عليها بعد رحلة شاقة من العمل والجهد إبّان مرض “كريم”، هذا الفعل الذي يتعامل معه الأب بالغضب مرجعاً أفعال ابنه إلى الشقاوة لا إلى النضج المبكر، في حين تقول الحقيقة أنه حتى لو اتخذت تصرفات الطفل طابع اللعب إلا أنه مهتماً بمساعدة أهله الفقراء إهتماماً حقيقياً
مشهد سقوط برميل الأسماك هو الأقوى تأثيراً في تلك اللقطات البطيئة القريبة التي صورت تخبط الأسماك الذهبية وهي منتشرة على الأرض تعاني خلجات الموت الأخيرة، بينما الوجوه الصغيرة الباكية من حولها ترقبها بحسرة وقلة حيلة. ويتمكّن “حسين” من إنقاذ سمكة وحيدة ويلقي بها في خزان القرية المملوء بالماء العذب ليستقبل الأمل الجديد الذي يخبىء وعداًً بغد أفضل وبأحلام قادمة لا تسقط ولا تموت.
الفيلم يجسد حياة إنسانية وديعة، ويلعب التآزر الإجتماعي والديني وتواجد الأطفال دوراً مهماً فيه. . في طهران ستقود الصدفة “كريم” للعمل كسائق دراجة تاكسي حيث تبدأ رحلته داخل مدينة ستعرّفه على مفردات حياة جديدة كالكذب والسرقة والطمع. و يتعرض كريم لحادثة سقوط في منزله تحت اكوام أغراض جمعها مما تلفظه المدينة على أرصفتها، ليدرك هول الإنعطاف الذي جرّه اليه زحامها. في خضم ذلك يصنع من حلم ابنه في تربية أسماك الزينة لتعيش في مياه عذبة بدلا عن تلك الموحلة التي يمتليء بها خزان القرية.. ذلك يخلق بعدا ًرومانسياً موازياً يسمح بإيجاد مشاهد ملفتة في تصويرها وتنفيذها وإبهار المشاهد بهخا بشاعرية سينمائية رهيفة.
“أغنية عصافير الدوري” محض أنشودة عذبة تروي حكاية حب وتكاتف أفراد أسرة حنونة لبعضهم البعض دون اللجوء إلى أية مباشرة أو فجاجة شعاراتية،كما تحدث في السينما العربية.. وذلك ضمن لعبة فنية عالية المستوى ينجح المخرج في تقديمها، إذ تغوص عدسته في تفاصيل حيوات شخصياته، و تقتنص منها كل ما هو معبّر وعميق وحقيقي، يلامس دقائق الأمور في دخيلة إنسانية تتشابه مع هؤلاء الأبطال/العصافير.
[color=blue][size=24][center]وأيضاً يبدو مجيد مجيدي وهو الأكثر انسجاماً مع محرمات السينما الإيرانية، التي استطاعت أن تقدم أعمالاً متحفية ضمن شروط قاسية تحدد الخيارات الدرامية بصرامة، وهو ـ مجيدي ـ يقدم نفسه أولا كفنان مؤمن بالقدر وبتعاليم الدين الإسلامي الظاهر منها والغيبي، بما ينسجم إلى حد بعيد مع الشروط والخطاب الروحي الذي يقارب الديني السائد المعبر عن إيمان عميق ونزعة صوفية أصيلة تركز على الأخلاقي والإنساني .
في كل ذلك يكشف مجيدي عن الهم الوجودي بعمقه وقسوته، وينحاز إلى شاعرية بصرية وبساطة اسلوبية متينة. فهو يتقن سرد تفاصيل الواقع اليومي المعاش الذي يلامس الوجع ويسميه بوضوح من دون أن يمعن في استنزافه، ويبتعد في فيلمه هذا أو ما سبقه من أي تنازلات في لغته السينمائية المكثفة والمدروسة بدقة
https://www.youtube.com/watch?v=Os4fcunIvpE&feature=player_embedded